إن أفريقيا
هي صانعة هذا الفن بدون مبالغة، وذلك عبر الطقوس القديمة الروحية والدينية التي كانت
سائدة في أفريقيا، وبعضها ما يزال، غير أن المسرح الأفريقي القديم بمجمله كان فناً
جماعياً وليس فردياً.. بل لعلنا نرى أن تاريخية المسرح الأفريقي تكاد تكون مجهولة
على خريطة الفن المعاصر في القرن العشرين.
وتدلنا
الوثائق والمعلومات التاريخية، على أن مسرح أفريقيا وقد ولد مرتبطاً بالتصور
الديني من ناحية، ومن واقع المجتمع القبلي الأفريقي من ناحية أخرى، وكانت بداية
الشكل الفني لهذا المسرح بداية طقوسية شعائرية تتعلق بالطقوس والشعائر الدينية
المنتمية إلى عصرهم آنذاك، ظهرت هذه الطقوس والشعائر في الاحتفالات التي كانت
الجماهير الأفريقية - داخل نطاق القبيلة - تشاهدها على شكل حلقة دائرية تتابع ما
يقدمه الممثلون والمغنون والراقصون، صحيح أنه كانت هناك احتفالات دينية مختلفة على
مر العام، منذ قديم الزمان، في أفريقيا؛ لكن الواقع أن العروض في كل الاحتفالات
كانت تنحو نحو شكل واحد يتلخص في إعداد المسرح بما يقتضيه من واجبات فنية، هي
الغناء أو الحوار أو الموسيقى، كما كان من أهم مميزات هذا المسرح اشتراك الجماهير
الأفريقية حول الدائرة أو حلبة المسرح بشكلها آنذاك اشتراكاً فعلياً بتمديدات
مقاطع الغناء، أو بهذه الابتهالات الدينية. هذه العروض الأفريقية كانت تستمر لعدة
أيام متصلة.. واستعملت الأقنعة التي ترمز إلى وجوه بعض الحيوانات الأفريقية لإبراز
عوامل الضحك والفكاهة، وهو الأمر الذي وجه أدب وفن القصة الأفريقية إلى استعمال
هذه الأقنعة ومستتبعاتها من تأثير في نسيجها، مستقبلاً. لقد ساعدت القصص الأفريقية
الغنية بأفكارها وأحلامها وخيالها الواسع المتقد على إبراز نوع أدبي جديد لم يكن
له نظير في عالم القصة في أي مكان آخر، وقد ساعد على تطور هذا النوع القصصي في
المسرح استعمال الأصوات الغريبة والمخيفة لإبراز التأثير الفني وسط مظاهر كشفت عن
النوع المسمى بالتيار (الجريوتي) والـــ
Mandingo .
بدايات
المسرح
لم
تختلف بدايات المسرح في العالم عن بعضها البعض، وإن تطورت من مجتمع إلى آخر وفق
احتياجات كل مجتمع، ووفق منظومة قيم أخلاقية وعرفية خاصة به وبعاداته، وتقاليده،
كما عرفت الحضارات الكبرى المسرح، فعرف في اليابان، وعرف المصريون القدماء الأداء
المسرحي على المستوى الشعبي المحلي، والمستوى الرسمي في المعابد، وبعد ذلك في الأديرة،
ثم
بأشكاله
الشعبية بعد ذلك من أراجوز وخيال الظل والسامر... الخ، كما إن أفريقيا جنوب
الصحراء عرفت المسرح، ولكن بما يتماشى مع طريقة أداء هذه المجتمعات، ولم تعرف هذه
المجتمعات مسرح العلبة أو المسرح الأرسطي، المعتمد على وحدة المكان والزمان والحدث،
إلا مع الاستعمار الذي حاول قطع جذور الثقافة الأفريقية وربطها بجذور مختلفة عنها
ولا تمت إليها بصلة، وهذا حال أغلب دول الجنوب.
إن
كل حضارة تفرز فنها، الذي ينبع منها بتلقائية، حيث يكون وليد متطلبات واحتياجات
هذا المجتمع، من هنا بدأ المسرح الأفريقي من خلال الوسط العائلي، مما جعله ينتشر
في ربوع القارة بأسرها، وينتقل من جيل إلى جيل. شارك في هذا الإنجاز الرجال
والنساء والأطفال، حيث أبدعوا فيه إبداعاً بالغاً أثناء الاجتماعات العائلية
والأعياد والطقوس الدينية المتنوعة. ظل المسرح الأفريقي في بداياته شفوياً ومرتجلاً
شأنه شأن الأدب الشعبي.. الذي تطور مع تطور المجتمعات بعد الاستعمار وانتشار حركات
التحرر، والسؤال هنا في ظل هذا التقدم الكبير في التقنيات الفنية عند الأفريقي،
كيف لم يعرف الكتابة؟ أم هو استعاض عن الكتابة بالرمز، وبلغة الجسد ليصل بها إلى مستويات
عالية جداً، ملخصاً كل ما يقوله في إشارات جسدية، وصوتية فرضتها طبيعة المنطقة
الجغرافية.
موضوعات
المسرح الأفريقي
تنوعت
مواضيع المسرح الأفريقي بشكل كبير.. وكان هذا التنوع وما زال ثرياً وخصباً، حيث
يستمد قوته من طبيعة القارة الثقافية.. التي امتزج فيها السحر بالأسطورة بعبادة
الأسلاف وتقديرهم... الخ. احتوت مواضيع الدراما عموماً والمسرح على مواضيع تتعلق
بالأساطير الأفريقية، التي هي من التنوع بمكان، والحكايات الشعبية، هي في مجملها
لم تدون وما زالت شفهية، والخرافات، ومواضيع تتعلق بالعادات والتقاليد الأفريقية،
بالإضافة إلى مواضيع تمجد الأسلاف واتصالهم بمجتمعهم ومساعدتهم، ومواضيع خاصة
بالأخلاق والقيم الأفريقية والسلوك القويم للأفريقي.
المناسبات
التي يقدم فيها المسرح
إن
طبيعة الدراما والمسرح الأفريقي، طبيعة ذات وظائف اجتماعية، فهي انعكاس لحال
المجتمع وتجسيد لما يطلبه المجتمع وما يفرضه من قيم وعادات وتقاليد. وهو مسرح قائم
على مزج النزعة الكوميدية، بالاتجاه الواقعي، خادماً قضايا هذه المجتمعات، ومغلّفاً
هذه الخدمة بطابع تعليمي لا ينكر المتعة والتسلية، متحرراً في ما يتناول من
النموذج الأرسطي الغربي الذي اعتمد على اللغة وعلى مجموعة من القيم والمعايير التي
لا تتناسب واحتياجات الأفريقي، كان هذا نتيجة للمناسبات التي يقدم فيها هذا
المسرح، حيث يقدم في المناسبات الاجتماعية المختلفة، من ختان وحفلات البلوغ
والزواج وحفلات الحصاد، وفي حال إعلان الحرب، وفي كل مناسبة يجتمع فيها أهل القرية
أو القبيلة.
إن
المسرح في أفريقيا نشاط شفهي، قائم على الأغراض الدينية، والطقوس الشعائرية
والأغراض الاجتماعية، من هنا كان هذا المسرح بسيطاً في تناوله للموضوعات، ليست
بساطة السذاجة، بقدر ما حمل هذا المسرح من العمق ببساطة ويسر، ذلك لأنه مسرح قائم
على تفاعل الجمهور مع المؤدين، أثناء العرض، حيث يُؤدّى في الهواء الطلق.
ومع
تطور المجتمعات، حدث تطور كبير في أغراض المسرح الأفريقي، وأصبح يتناول كل ما يهم
هذه المجتمعات من قضايا سياسية، وأحداث الساعة، مجسداً هذا في صراع بين قيم الشر
والخير، بين المتاح والواجب، بين ما هو واقعي، وما هو مثالي. مخالفاً بهذا قيم
المسرح الأوروبي، التي تناولت في موضوعاتها الصراع بين الآلهة والبشر، ثم الصراع
بين العاطفة والواجب.
السمات
الجوهرية للمسرح الأفريقي
حمل
المسرح الأفريقي سمات ميزته عن المسرح في الدول التي استعمرت القارة، هذه السمات هي
لبّ وجوهر حياة الإنسان الأفريقي، وهي سمات أساسية في ثقافته، هذه السمات تمثلت في
الفعل، الإيقاع، المشاعر، الإيماء، المحاكاة، الرغبة، هذه السمات قائمة على أن
الحوار ليس هو الأساس في المسرح، بل إن لغة المسرح أكبر من المكونات الكلامية،
وهذا ما طرحه المسرح التجريبي، وهو مسرح قائم على عناصر مختلفة قد تستبعد اللغة
(الحوار) من العمل المسرحي، وتتعامل مع الجسد والعناصر المختلفة للعمل المسرحي
(إضاءة، ديكور، موسيقى، حركة بكل أنواع الحركة... الخ)، من هنا طرح هربرت دلومو،
في مقال له عن الخصوصية في المسرح الأفريقي فكرة الإيقاع، حيث يقول: "الإيقاع
هو في الأساس أفريقي، لقد كان الأفريقي القبلي تحت سيطرة قوية للأسلوب، لكنه أدى
إلى ولادة حس بالإيقاع عند الأفريقي، هذا الإحساس بالإيقاع نجده حتى في حركات
الناس القبليين، وبنفس القوة نجد الإيقاع في الموسيقى الأفريقية، وفنون الرقص
القبلي، ويمكن القول في الحقيقة، إن أعظم إنجاز فني لأفريقيا هو الإيقاع".
هذا الإيقاع هو إحدى أهم السمات الخاصة بالمجتمعات الأفريقية، فهو -الإيقاع- وليد
طبيعة هذه المجتمعات وإفراز طبيعي لطقوسها الدينية وهذا الطقس يتحول مع الدراما
إلى لعبة استعراضية، ذات فضاء أسطوري، يلتقي فيها الإنسان العادي، بحضوره إلى دائرة
الفعل في العمل المسرحي، مع الآلهة، حيث يتشارك من يحضرون مع من يؤدي، في إيقاع
يتسم بالتناغم بين كافة أشكال التعبير البسيطة والمتاحة بلا تعقيد، يحركهم إيقاع
متناغم تنتفي فيه فكرة المؤدي، حيث يتماهى الجمهور مع أبطال العمل، إن الأداء يكون
في الهواء الطلق، فهو مسرح مجاني، قائم على الديكور الطبيعي للمكان، مما يوحي
بالثقة والبساطة، تُلقي فيه حكمة الشيوخ، عظات على الشباب، بلا افتعال أو تلقين،
معتمداً على استحضار روح الأسلاف، وربطها بالحالة الطقسية لفعل المسرح من خلال
الأزياء البسيطة المعبرة، والبناء البسيط للحدث الدرامي.
مع
منتصف القرن العشرين، ظهرت حركات تنادي بعودة المسرح الأفريقي إلى جذوره، وتصحيح
الوضع داخل المسرح عن طريق عودة الغناء والموسيقى بالطابع الأفريقي الأصلي إلى العروض
المسرحية وإعادة دور الأوركسترا الموسيقي في الدراما المسرحية، إلى سابق عهده
متلازماً ومتلاحماً مع الفنون الدرامية ومع حركات التحرر التي عمت أفريقيا في النصف
الثاني من القرن العشرين، ومع استكمال هذه الحركات استرداد أرضها، بدأ الأفارقة
بالعودة إلى جذورهم المسرحية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق