الثلاثاء، 21 أبريل 2015

عميد الفن السوداني أحمد المصطفى في ذكراه الخامسة عشرة

 ملك السامبا والميلودية الغنائية
عثمان عبد الله أدهم
موسيقي من الرواد

المعرفة والإبداعات والإنجازات العلمية هي ما حققه الإنسان، وهي التي ساعدته على تطوير حياته وملكاته، ولكن الفنون هي الإبداع الأعظم لكونها تتعامل مع الروح والوجدان، وهي النفحة التي أودعها الله في الإنسان
، هذه الروح هي مصدر الإلهام والتجلي، وهي مصدر الفنون التي يجسدها الخيال وينسج منها واقعاً وجدانياً، والفن ليس شكلاً من أشكال الترف فحسب، بل هو الدعامة التي تقوم عليها الحقائق البشرية التي يجب أن نسترشد بها في تفكيرنا، فالمادية وحدها متمثلة في التقدم التكنولوجي والاقتصادي لا تكتمل إلا برفاهية تشبع العقل والروح معاً، وهذا ما برع فيه صاحبنا حتى استحق لقبه الفخم.. إنه عميد الفن السوداني (أحمد المصطفى).
مرت خمسة عشر عاماً منذ أن رحل عنا عميد الفن السوداني، الذي غمر قلوبنا بفنه الرفيع فسما في وجداننا لعقود مضت وأخرى قادمات.
أصل الموسيقى
أصل الموسيقى الإنسانية هو الصوت الآدمي الذي تغنى وحده دون مصاحبة الآلة الموسيقية التي أصبحت مصاحبة للصوت، عليه تصبح الأغنية هي أساس الموسيقى قبل أن تصاغ لها القوالب الموسيقية الحديثة المتعددة. بدأ الغناء بالأغنية الشعبية التي كانت تحكي عن المجتمع وعاداته ومعتقداته وممارساته الحياتية في الحصاد والزراعة ومواسم الزواج والختان وكل ما يتصل بالبيئة، ثم تطورت إلى أشكال متعددة بدخول الآلة الموسيقية حيث أخذت شكلاً متقدماً في الأداء أو التناول عندما أصبحت أغنية المدينة أو الحضر.
خواص الأغنية
أصبحت الأغنية الرافد الموسيقي الأول لتعدد عناصرها متمثلة في القالب الغنائي (Form) وهو يبدأ بثلاثة عناصر (نص + لحن + مغني) وأخيراً دخول الآلة الموسيقية وما أحدثته من تطور وإضافات فنية موسيقية في كل عناصر التأليف الموسيقي الحديث وأطلق عليها اسم الكانتانا أو ما نطلق عليه الأغنية الطويلة ثم السيمفونية وأشهرها السيمفونية التاسعة لبيتهوفن والسوناتا Sonnets )) والأوبرا opera ومن أهم عناصر نجاح الأغنية هو الأداء الصوتي ويطلق عليه موسيقياً Timbre ) ) وما نطلق عليه نحن التطريب لأن الأداء هو الوسيلة الفاعلة والمباشرة لتفسير النص وكل عناصر الأغنية عبر الصوت، وعندما أخذت الأغنية قالبها الحضاري بدأت بما يطلق عليه المونودية Monadic أي على خط موسيقي واحد.
مرافئ الأغنية الوترية (أغنية الوسط)
لا تخلو هذه المرافئ من أثر تراثي صوفي وتأثير للأغنية الشعبية ولكن حديثنا الأساسي هو عن ما أطلق عليها اسم (حقيبة الفن) التي تشربت مصادرها من العناصر السابقة وخرجت من رحمها الأغنية الوترية وأقف هنا مع المسمى (أغنية المدينة) لأن نشأتها كانت بالمدينة فهي ملتقى الثقافات المتعددة التي يتمتع بها سوداننا الحبيب كما أنها نشأت في مناخ ثقافي انفتاحي عم كل البلدان العربية وتأثرت بمعطيات ثقافية عبر الهجرات للجاليات الأجنبية إبان الحكم الثنائي وقد لعبت السينما وتأسيس الإذاعة السودانية دوراً رائداً وظهرت آلة العود الشرقي الذي كان رأس الرمح في الانتقال للأغنية الوترية.
قالب أغنية الحقيبة
بدأت أغنية الحقيبة الغناء عبر الحنجرة أي غناء فوكالي يعتمد على مسافتين هما الأسلوب التبادلي (Antiphony) والأسلوب التجاوبي (Responsorial) وهما أسلوبان يعتمدان على (فنان + كورس) ودخلت بعض الآلات الموسيقية كالكمان والأكورديون القديم والبيانو ولكن لم تكن ذات أثر واضح في الأغنية الوترية.
أحمد المصطفى.. عميد الأغنية الوترية
عذراً كان لابد من هذا المدخل لنتمكن من معرفة الدور الموسيقي الذي قامت به الأغنية الوترية كرافد مهم يقوم عليه تطور أغنية المدينة ونذكر بعض أساطين تلك الفترة ومنهم إبراهيم الكاشف، عثمان حسين، عثمان الشفيع، التاج مصطفى وسيد خليفة وهذا مثال وليس حصراً غير أن الفنان أحمد المصطفى يشكل مدرسة متفردة ولعل ما نقرأه في سيرته الذاتية دليل على ذلك فهو من مواليد قرية الدبيبة شرق الخرطوم وحدة العيلفون الإدارية واسمه أحمد محمد بركات، واسمه الفني أحمد المصطفى، وهو مطرب وموسيقي وملحن غنى على كل المساقات الغنائية وله أكثر من 60 أغنية وكان مجدداً في موسيقاه، ولد في بداية العشرينيات وتوفي في العام 1999.
النشأة
نشأ أحمد المصطفى في بيئة مسكونة بالفن من شعر وغناء بداية بالإنشاد الديني ولانحداره من أسرة لها عمق في التصوف تشرب بذاك الفن وكان لوجود الطنابرة وغناء الطنبور والضاربين على الإيقاعات الشعبية (الدلوكة) والرقصات الشعبية (العرضة) كبير الأثر في تشرب أحمد المصطفى بكل هذا الفن الجميل وهذه الإبداعات التي تعمقت في روحه الشابة وأودعت فيه روح الفنان ثم ظهور فترة حقيبة الفن التي كان لها الأثر العميق في إرثه الفني حيث أعجب بها كثيراً وكانت له علاقة وطيدة مع عميدها (محمد أحمد سرور) الذي رافقه في رحلات فنية عدة وكانت السينما هي المؤثر الثاني لرائدنا حيث كان معجباً بالفنان محمد عبد الوهاب الشيء الذي جعله مغرماً بالعود وعزف محمد عبد الوهاب وسادت وقتها الفترة الوترية لأن آلة العود كان لها القدح المعلى للتحول للفترة الوترية حيث بدأ بها الفنان أحمد المصطفى الدخول إلى عالم الحقيبة.
لونيات جديدة
بدأ أحمد المصطفى بأغنية الحقيبة (أنا ما معيون) لسيد عبد العزيز حيث أداها على آلة العود وأكسب الأغنية ثوباً جديد وقد وجد استحساناً وقبولاً شديدين واستطاع أحمد المصطفى كسر حاجز الفوكاليه Vocal وأصبح الأداء (لحن + نص + آلة) ثم أعاد التجربة في أغنية (طار قلبي) ولكنه بذكائه وموهبته أدرك أنه لم يفعل غير أنه بدل الكورس بالآلة الموسيقية وكان لابد من إدخال عنصر جديد وكسر الدائرة وكانت أولى محاولاته في ذلك أغنية (ظالمني) حيث أدخل أحمد المصطفى عنصراً جديداً هو (اللازمة الموسيقية) التي ساعدت على ربط الميلودية باللحن وإعطاء نفس للمغني وبهذا بدأ التحرر من قالب الحقيبة وبدأت الوترية لديه تأخذ قالبها الخاص، كما بدا الأداء الميلودي أكثر توسعاً وحجماً، ورائدنا يسعى وراء التطور في الحوار وإدخال متنوعات ميلودية جديدة وأدخل عنصراً جديداً هو الكوبليه، وهو يعبر عن النص عبر شعور المؤلف، وبدا ذلك واضحاً عبر أغنية (أهواك) للشاعر أحمد محمد صالح، وبها مجهود فني وأداء موسيقي، ثم أضاف أحمد المصطفى ما يطلق عليه (Over ture) أي أغنية المقدمة في أغنية (في سكون الليل).
ثم جاء أحمد المصطفى بلون أدائي جديد لم يسبقه إليه أحد وهي لونية المصاحبة (Accompaniment ) وظهرت في أغنية الوسيم، تبدأ من (عز من بعدو، وتنتهي جسمي جافي الرقاد مهادو).
أما المعجزة والتجديد الحقيقي لدى العميد، فيأتي في نقله الأغنية السودانية من المونودية (Monadic) إلى البولوفونية ( Polyphonic) وهي وجود خطين موسيقيين متقابلين وهذا ما يطلق علية (Counterpoint ) يسيران في حركة مضادة ويلتقيان مع اللحن الأساسي وهذا الأسلوب هو الذي يحقق الطريق إلى الهارمونية وهي من أصول التأليف الصوتي الكامل المتجانس الذي يربطنا بالموسيقى المبرمجة وهي تنبني على فكرة معينة أو موضوع معين تجد هذه الفقرة في أغنية (أيام زمان) وهي خير دليل على اكتمال قالب (الكانتا) بمقدمتها الرائعة وبما احتوت من بولوفونية.
وحقق رائدنا أسلوباً عالمياً يطلق عليه (Decapo ) الديكابو وهو أسلوب يعتمد على الجملة الأساسية ودخول جمل أو (Motif ) ثم الرجوع للجملة الأولى ووضح ذلك في أغنية (يا ناري) وهي ثلاث حركات إذا عزفت آلياً فهي تشابه الـ (Minuet ) أو الـ (Suite).
مساهماته
طور الأغنية إلى الـ (Cantiar ) أو المصاحبة وأدخل اللازمة والكوبليه الموسيقي، والمقدمة الموسيقية ووصل بالأغنية إلى مستوى البلوفونية ووظف الأغنية التي كانت ذيلية للكانتا أو ما نطلق عليه الكسرة، وهي غالباً ذات إيقاع سريع ووظف إيقاع الرومبا في أغنية (بلالي ما جا)، والعرضة في أغنية (أشكي وأبكي لمين)، والسامبا في أغنية (قربو يحنن)، والمارتي في (فتاة الوطن)، والفالس في أغنية (في سكون الليل).
الأغنية الوطنية عند العميد
الأغنية الوطنية عند أحمد المصطفى تجاوزت المارشات العسكرية إلى الأغنية الوجدانية الوطنية، وهو أسلوب مشحون بالعواطف مثل أغنيات (عيدك يا وطن، لي غرام وأماني، أنا أم درمان، نحن في السودان نهوى أوطانا، فتاة الوطن)، وحتى تلك الأغاني التي هي لشعراء عرب، (وطن النجوم) لأيليا أبو ماضي وقد شارك الفنانة الراحلة صباح في أغنية (رحماك يا ملاك) برهنت على أن أحمد المصطفى هو ملك السامبا والمقدمة الموسيقية الجميلة التي صاحبت الأغنية.
خصائص طبيعية
يتميز أداء أحمد المصطفى بحس فني رفيع وأداء تعبيري يجمع بين الشجن والحزن والفرح ويمتلك خاصية عالية في التعبير الميلودي والانتقالات ويعد من القلائل الذين يجيدون الانتقال الميلودي، أغنية (سفري)، (في سكون الليل) وكسرت أغانيه حاجز المحلية ووجد قبولاً في إثيوبيا وإريتريا والصومال ومصر وكان أول فنان سوداني يسجل لإذاعة بي بي سي BBC ومونت كارلو ومصر وأصدر ألبوماته في بداية الخمسينيات وأدخل آلة الجازباند لأول مرة مما أعطى الأوركسترا ثراء إيقاعياً وكان رأس الرمح في بناء دار الفنانين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق